شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أجمل أساطير النيل في السودان... ومواكب النساء اللواتي يغسلن العروس والأم والمولود

أجمل أساطير النيل في السودان... ومواكب النساء اللواتي يغسلن العروس والأم والمولود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تعكس الأساطير والروايات الشعبية مدى تقديس السودانيين لنهر النيل، وسمو مكانة النهر باعتباره ملتقى الحضارات والثقافات، ومصدر إلهام الشعراء والفنانين، كما يجسد من خلاله السودانيون حبهم للحياة عبر إرث طويل من الطقوس والتقاليد، التي تتنوع دوافعها بين الإيمان ببركة مياهه وقدرتها على شفاء الأمراض، وأهميتها في تطهير النفوس، وتخليصها من الآثام والذنوب. فالموروث التاريخي الذي وُلد على ضفاف النيل في حضارات السودان السابقة يظهر أن حاجة السودانيين إلى النهر أكثر من مجرد مصدر للماء والغذاء.

نيل البركة والخير

يستبشر السودانيون بالنهر كمصدر للأمل والتفاؤل والسعادة، ويؤمنون ببركة مياهه، لذا يبدأون قصص أطفالهم في الحياة مع النهر، حيث يؤخذ المولود في موكب نسائي إلى نهر النيل عقب ولادته ليُغسل وجهه ويديه وقدميه من مياهه، وحتى لا تنقطع علاقة المولود بالنهر يلقون بالمشيمة في قاع النهر، آملين استمرار النسل، قبل أن يعود الموكب النسائي مجدداً بعد مرور أسبوع ليجدد طقس الاغتسال للمولود/ة. 

الأساطير المتوارثة عن النيل في السودان تقول بأنهم ينظرون إليه كسبب للحياة وأكثر بكثير من مجرد مصدر للماء والغذاء
وفي اليوم الأربعين من الولادة تتجمع السيدات والفتيات من أهل المولود الجديد، وتحمل الأم مولودها، وتذهب معهم به إلى النيل العظيم، لتتطهر الأم من نفاسها بغسل وجهها ويديها وقدميها في مياه النهر، وتغسل للرضيع وجهه ويديه وقدميه بمياهه المقدسة، وعند عملية الختان يتكرر مجدداً طقس زيارة الموكب للنهر بالمولود/ة.

الماء الذي يطهر كل إثم 

وفي هذا الإطار تقول ميرفت والي خبيرة الحضارات السودانية لرصيف22: "طقوس الاحتفاء بالمولود الجديد في مياه نهر النيل هي في عداد الموروثات الثقافية للمملكة النوبية، التي ترعرعت على ضفاف النهر، وآمنت بقدسيته كمصدر للحياة، وهو ما دفع النوبيين إلى ربط حياتهم به، كما اعتقدوا أن مياهه تقي النفوس من الحسد والسحر والشر، لذا تعددت زياراتهم للنهر لتطهير وتحصين نفوسهم قبل أن تنتشر تلك الطقوس في مختلف ولايات السودان". 
بعد أن تلد المرأة تذهب بالرضيع بصحبة موكب نسائي لغسل وجهه وقدميه ويديه في النيل حتى لا تنقطع علاقته بالنهر، أما في اليوم الأربعين فيعدن لغسل الأم من النفاس
وتضيف: "لم ترتبط قدسية النيل للنوبيين في مرحلة الميلاد فقط، بل امتدت على مدار مراحل حياتهم من بلوغ وزواج حتى الوفاة، فيغتسل الزوجان بمياه النهر كأحد طقوس ما قبل الزواج، ويتخلص الخاطئون من آثامهم بالاغتسال في النهر، وتؤخذ ملابس المتوفي إلى النهر ليتم غسلها في مياهه، قبل أن تُهدى إليه".
وما زالت بعض القبائل على ضفاف النيل، تحمل جثمان الميت إلى النهر لغسله بمياهه قبل الدفن، مؤمنين بقدرة مياه النهر على تطهير الروح وإراحتها قبل انتقالها للعالم الآخر، وتصطحب السودانيات في ولايات النهر وروافده، المرأة الأرملة بعد وفاة زوجها وانقضاء عدتها، لتدفع الشرور والفأل السيىء عنها عبر اغتسالها في مياه نهر النيل، كما تنتشر الأساطير حول اعتقادات قديمة بأن الرجل الذي يلتقي الأرملة أثناء رحلة ذهابها للنهر سوف يلحق بزوجها ويموت، لذلك يصاحب المرأة عدد من أهلها وجيرانها لتحذير الرجال في الطريق بشكل مسبق ليتراجعوا أو يغيروا مسارهم، حتى لا يلقاها أحدهم قبل خلاصها من طاقة الموت والحزن، فيموت.

وفي العرس نتبرك به

في شمال السودان، يزف الأهالي العروسين بجريد النخل الأخضر قبل حفل الزفاف إلى النهر، لغسل وجهيهما، والتبرك بمياه النيل، وتعرف تلك الزيارة بـ"السيرة".

عريسنا ورد البحر يا عديله 
قطع جرايد النخل الليلة زينة 
عريسنا صافح دخل يا عديله 
فرح قلوب الأهل الليلة زينه 

كما يؤمن السودانيون بقدرة مياه النيل على تطهير أجسادهم من لعنات المرض، فينصح الأهالي بعضهم بعضاً في ولايات النهر بأن ينالوا الشفاء من مياهه، بعضهم يشرب وبعضهم يستحم فيه، كالصبية المصابين بالأمراض الجلدية. 

ما زالت بعض القبائل تحمل جثمان الميت إلى النهر لغسله بمياهه قبل الدفن، مؤمنين بقدرته على تطهير الروح وإراحتها قبل انتقالها للعالم الآخر

ويقول الباحث بالثقافة الشعبية السودانية عبد الكريم سمعان لرصيف22: "ارتباط الحضارة السودانية القديمة بنهر النيل لم يكن وليد الممالك النوبية بالشمال، بل ظهر قبل ذلك بوضوح على امتداد أكثر من 1400 كيلو متر، من جنوب الخرطوم حديثاً على طول وادي نهر النيل حتى الحدود الجنوبية مع مصر في الشمال، وذلك بداية عبر وطن النيليين الذي ترجع حضارته إلى عصر ما قبل الأسرات، ثم خلال حقبة مملكة كوش التاريخية، حيث تم تخليد النهر عبر الحفائر الأثرية للنيليين ومنقوشات آثار مملكة كوش، كما أن مراسم وفاة ودفن وعزاء الملوك الكوشيين كانت تتم على ضفاف النهر".
ويستطرد: "اعتقد الكوشيون مثل الفراعنة المصريين بألوهية النيل، لذا كانوا يحرصون على تقديم الهدايا والقرابين له، وقدسوا مياهه وفيضانه، واعتبروه شريان الرخاء والوفرة، كما أقاموا المعابد على ضفافه، وما زال جبل البركل شاهداً على هذا العصر باعتباره مركزاً للديانة الكوشية القديمة، ورغم توافد الثقافات المتنوعة على الأراضي السودانية عبر التاريخ، فإن القبائل التي سكنت ضفاف النهر حافظت على العادات والطقوس المرتبطة بالنهر، وتناقلتها، ونشرتها في مختلف أرجاء البلاد".

تاريخ من الأساطير والروايات الشعبية

أَيُّها النيـل في القُلوب سَلام الخُلد وَقف عَلى نَضيـر شَبابـك
أَنتَ في مَسلَك الدِماء وَفي الأنفاس تَجري مُدَوياً في اِنسيابك
في قصيدته "سليل الفراديس"، وصف الشاعر الصوفي التيجاني يوسف بشير خصوصية العلاقة بين الشعب السوداني ونهر النيل، تلك العلاقة الخاصة التي تحتفي بها الأساطير والروايات الشعبية منذ عتيق التاريخ، فقديماً آمنت حضارة جنوب الوادي بشمال السودان بأن النيل هو إله الخير والبركة والوفرة، تماماً كما اعتقد المصريون القدماء بذلك، فنسجوا حوله الأساطير بين مراحل سكونه وفيضانه، وقدموا عروس النيل هدية له في مواسم الفيضان، نظير حمله للطمي الذي يعمل علي زيادة خصوبة التربة، ويساعدهم على الزراعة بعد انتهاء موسم الفيضان، مؤمنين أن العروس المُلقاة في النيل، تتزوج بالإله "حابي" في العالم الآخر، لذا فقد كان القدماء يختارون أجمل الفتيات وأفضلهن نسباً لتليق بالزواج من الإله.
في حي المقرن جنوب الخرطوم العاصمة، تجلس الحاجة أم بشير على ضفاف بدايات النهر، ويجتمع حولها أبناء أحفادها وأبناء عمومتهم وأصدقائهم من الحي، حيث يلتقي رافدا النيلين الأزرق والأبيض، ليشكلا معاً وحدة مسار النهر، تنسج "أم بشير" للأطفال روايات النيل التي عاصرتها قبل أكثر من 90 عاماً، ولا تخلي رواياتها من الأساطير التي تلقي اهتمام الأطفال، تروي أم بشير إن السودانيين يطلقون مصطلح البحر على نهر النيل، وإن أعماق البحر تضم عدداً من المخلوقات الغريبة، فالجني "عبد العليم" يعيش أسفل البحر، ومهمته الحفاظ على تدفق المياه إلى كل مناحي السودان، بينما تفسر صوت صرير المياه المرتفع عند مقرن التقاء النيلين بأنه صوت التنين الحارس للنهر، وتحذر الأطفال من محاولة النزول للنهر، خاصة في تلك الأماكن العميقة. 
تروي التسعينية أم بشير لأولاد أحفادها قصصاً عن الجني عبد العليم الذي يعيش أسفل "البحر" أي النهر، وتفسر لهم صوت صرير المياه عند مقرن التقاء النهرين حيث يعيشون بأنه صوت التنين الحارس للنهر 
وفي جنوب السودان اعتقدت قبائل "الدينكا" و"النوير" بأن فيضان النيل غضب من الآلهة، لذا كانوا يقدمون أبناءهم من الجنسين إليه كقرابين، داعين ألا يستكمل ثورته التي قد تغرق كل اليابسة، بينما آمن آخرون أن فيضان النيل هو غضب تاريخي للنهر، بسبب غرق فتاة جميلة صالحة كانت تدعي "بخت" وكانوا يصفون الفيضان بـ"بخت النيل"، مما يدفعهم لتقديم الهدايا له عبر القائها به حتى يهدأ.

روايات السحرة

وفي الولاية الشمالية تنتشر روايات السحر، ويتناقل الأهالي إحدى الروايات الأسطورية التي تقول إن السحرة يستطيعون تحويل أنفسهم لتماسيح، فيجوبون النيل ليل نهار، حيث يمكن رؤية تماسيح ضخمة بعيون مختلفة في قري "ناوا" و"ملواد" و"أمنتجوا"، كما يتداول الناس أن "الشيوخ" كانوا يستطيعون التفاهم مع تلك التماسيح المسحورة حال غرق أحد السكان، فيذهب "الشيخ" إلى ضفاف النهر وينادي الغريق،  فيخرج التمساح ويلفظه.
يرصد البعض أصل تلك الرواية أن السكان المحليين لبلاد النوبة أطلقوا تلك الشائعة لحماية بلادهم من الاحتلال، إلا أن الأجيال ظلت تتناقل تلك الرواية باعتبارها إحدى الحقائق الأسطورية، ومن الطريف أن بعض السكان الأصليين يقدمون آنية اللبن للتماسيح علي ضفاف النهر، فاذا لم تشرب ترسخت لديهم أسطورة السحر، إذ يعتقدون أن السحرة لا يشربون اللبن.  

تأخذ النساء الأرملة بعد انقضاء عدتها لغسلها في النيل، لدفع الفأل السيىء عنها، وتنتشر اعتقادات بأن الرجل الذي يلتقي الأرملة في هذه الرحلة سيلحق بزوجها ويموت، لذلك تسبقها بعض النساء لتحذير الرجال في الطريق لتغيير مسارهم

بين عشرات الأساطير الشعبية التي تُروي في مختلف أرجاء السودان حول النيل العظيم، وهذا الكم الهائل من الموروث التاريخي للطقوس والعادات والتقاليد السودانية التي تربط كل مراحل حياة السودانيين بالنهر، تبقي العلاقة الخاصة التي تجمع السودانيين بالنهر شاهدة على موروث جميع العصور والحضارات التي نشأت وترعرعت في هذه البلاد، مؤمنة بقيمة النهر، باعتباره مصدراً للحياة، كل الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image